في سابقة من نوعها, تقدّمت مجموعة من المحامين اللبنانيين بشكوى أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (Human Rights Council) ضدّ الدولة اللبنانية بتهمة خرق الحقّ بالتمتّع ببيئة صحية ومستدامة, والتسبّب بتهديد الحقّ بالحياة وببيئة سليمة, وتلوّث مقصود في الهواء والتربة والمياه, والتسبّب بالقتل الجماعي الناتج عن مطمر ومحرقة مكبّ النفايات في منطقة برج حمود (شمال بيروت) والمطامر الأخرى كافة.
تُهَم بيئية بالجملة. والشكوى المؤرّخة بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 2024 حملت تواقيع المحامين: الدكتور باسكال ضاهر, كارول لبكي, باميلا رحال, شربل شبير, جيلبر أبي عبّود, الدكتور ربيع طربيه, إيفا نصر, فرنسواز كامل, عبد السلام فتح الله, ميراي معلوف, لوسيان عون, وزياد عطاالله. ووُجّهت ضدّ الدولة اللبنانية والأجهزة التابعة لها سواء العامة و/أو الخاصة, بتهمة ارتكاب جرائم بيئية بحقّ الشعب اللبناني أمام المجلس المذكور, سنداً لقراره المرقّم 5/1 والصادر بتاريخ 18 حزيران/يونيو 2007.
أتت الشكوى على أثر اندلاع حريق هائل في مكبّ النفايات الواقع في منطقة برج حمود – المكتظّة بالسكان والتي تحتوي على عدد كبير من المعامل ومخازن الوقود – في 12 أيلول/سبتمبر الماضي. ونتج عن الحريق دخان سام حمل معه مواد ملّوثة خطيرة مثل غاز الميثان ومركّبات الديوكسينات والفورانات. وسرعان ما تحوّل المكبّ إلى كتلة مشتعلة يصعب إخمادها أنتجت كارثة بيئية وخيمة. السبب؟ تكديس الدولة لكميات ضخمة من النفايات غير المعالَجة وغير المفروزة بطريقة فيها ما يكفي من الإهمال المقصود والمتمادي, كما جاء في تقريرين سابقين لمنظّمتَي "غرينبيس" و"هيومن رايتس ووتش".
لمزيد من المعلومات, تواصلت جريدة "الحرة" مع الدكتور باسكال ضاهر, المفوَّض من زملائه المحامين لتقديم وتسجيل الشكوى التي حملت الرقم WHRC/10185, والتوقيع عنهم وفق الأصول المتّبعة أمام مجلس حقوق الإنسان. وقد استهلّ كلامه بأن موضوع الشكوى يمثّل خرقاً لحقّ الشعب اللبناني بالحياة وببيئة صحية ومستدامة وسليمة سنداً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 28 تموز/يوليو 2022 والمعنون "حقّ الإنسان ببيئة نظيفة وصحية ومستدامة", كما للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966, واتفاقية برشلونة لعام 1970 المعدّلة بموجب البروتوكول المكمّل الصادر عام 1980 والمعدّل في عامَي 1996 و2006, والمعتمدين جميعهم من قِبَل الدولة اللبنانية.
لدى سؤاله عن أسباب التوجّه إلى مجلس حقوق الإنسان الدولي, لا القضاء المحلّي, خصوصاً وأن الملف لبناني بامتياز, ذكّر ضاهر بأن سبق وسُجّلت وقُدّمت دعويَين بيئيّتين من قِبل متضررين أمام قضاء العجلة في بيروت والجدَيدة في الأعوام السابقة, لكن دون جدوى. وتجدر الإشارة إلى أن من شروط التوجّه إلى المجلس آنف الذكر أن يكون قد تمّت مراجعة القضاء الوطني أولاً أو أن يكون من الواضح بأن هذا القضاء الوطني غير مستقلّ أو غير نزيه, فيحقّ عندها للمجلس التغاضي عن هذا الاستثناء والنظر في الشكوى.
ويضيف ضاهر: "لقد وقّع لبنان على الاتفاقيات البيئية وتلك الخاصة بحقوق الإنسان, إنما دون البروتوكولات الخاصة بها. ومن المعروف أن هذه البروتوكولات مكمّلة لكل اتفاقية. وقد أنشئت آليات وهيئات لهذه الأخيرة حيث تتألف كل هيئة من خبراء مستقلين تنتخبهم الدول الأطراف في المعاهدة ذات الصلة. ويُعهد إليهم رصد تنفيذ الحقوق المنصوص عليها في المعاهدات في الدول الأطراف والبتّ في الشكاوى المقدّمة ضد تلك الدول. ورغم أن هذه القواعد تطورت منذ العام 1970 إلّا أن الفكر الدولي وجد أنه, حتى لو تمّ تشكيل لجان لتلقّي الشكاوى من الأفراد لمساءلة الدول المخالِفة وتصحيح وضبط الوضع, إلّا أنه لا يحقّ لهذه اللجان التدخل في قضايا الدول التي لم توقّع على البروتوكولات, ولذلك طوّر آليات التصدي وأنشأ مجلس حقوق الإنسان الدولي الذي يُعنى بالقضايا المتّصلة بحقوق الإنسان والحريات, سواء وقّعت الدولة على البروتوكولات أم لم توقّع. لذا, لجأنا إليه مرفقين الدعوى بجميع الدراسات والتحقيقات التي تؤكّد تورّط السلطة اللبنانية من أجل محاسبتها. فهو أفضل ما يمكن اللجوء إليه في هذه الحالة".
ولفت ضاهر إلى أن المجلس ليس هيئة قضائية بل هيئة خبراء تتقصّى وتتحقّق وتتأكّد من مدى خرق الدولة لحقوق الإنسان وفقاً للأحكام والمبادئ الدولية ذات الصلة. علماً بأنه أُنشئ بقرار تعديلي عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بهدف الارتقاء بحقوق الإنسان وجعلها أكثر احتراماً. كما أدخل تطويرات بين العامين 2018 و2021 لجعل توصياته أكثر إلزاماً للدول المخالِفة والتسلّح بأدوات تُستخدم ضدّ الأخيرة.
"أهمية الشكوى أنها وضعت إخفاقات السلطة في لبنان بشقيها التنفيذي والتشريعي أمام أعين المجلس, وبالتالي أصبح الملف اليوم أمام هيئة دولية, فيستحيل أن يُطوى في أدراج النسيان, لا سيّما وأننا نستطيع متابعة الإجراءات كافة عبر الحساب الإلكتروني المخصص لنا من قِبل المجلس. ونحن بصدد التحضير لشكوى أخرى تتصل بخرق السلطة اللبنانية لحقوق الإنسان الناتج عن تلاعبها المقصود باستقرار النقد ما شكّل خرقاً من قِبلها للحقوق المكفولة. وبات من الواجب ملاحقتها دولياً". وقد خلصت الشكوى إلى الطلب من المجلس قبولها في الشكل والأساس ومن ثم التحقيق فيها ومراسلة الدولة اللبنانية لاتّخاذ ما يلزم من توصيات تتضمن إجراءات لمنعها من مواصلة ارتكاباتها القاتلة بحقّ المواطنين, وحماية الحقوق ورفع الضرر وإقفال مكبّ برج حمود وتفريغه تحت إشراف المجلس, كما اتّخاذ ما يلزم من إجراءات لمنع الدولة من الإمعان في تلويث المياه الجوفية ومياه الأنهر ومياه البحر المتوسط وفقاً للاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
هي الشكوى الأولى من نوعها لبنانياً. وإذ يُعَدّ الحقّ ببيئة صحية جزءاً من حقوق المواطن بالعيش بكرامة, بناءً على المادة 23 من الدستور اللبناني, تُعتبر حماية البيئة واجباً وطنياً هي الأخرى. غياب الإرادة السياسية وتفشّي الفساد المؤسّساتي غالباً ما يتحكّمان بمصير اللبنانيين وحقوقهم. لكن, مع ذلك, هناك أمل بأن يتمكّن المجلس من وضع لبنان أمام التزاماته الدولية بتحقيق المعايير البيئية المحدَّدة والصارمة.
كارين عبد النور _ الحرّة